اقتصادسلايدشريط الأخبار

انكماش وديون وبطالة مشكلات مركبة تواجه الاقتصاد البريطاني .. مخاوف من إفلاس آلاف الشركات

في آب (أغسطس) من العام الماضي لم يكن ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني الحالي قد تقلد هذا المنصب بعد. كان حينها وزيرا للمالية في حكومة بوريس جونسون، وحينها أيضا أطلق تصريحا أثار الفزع في الأسواق، مفاده أن “المملكة المتحدة رسميا في حالة ركود اقتصادي لأول مرة منذ 11 عاما”، ولاحقا نقلت عنه هيئة الإذاعة البريطانية قوله “إنه لا ينبغي للحكومة أن تتظاهر بأن الجميع سيكونون قادرين على العودة إلى وظائفهم”.

اليوم يبدو القلق أكثر وضوحا في الأسواق البريطانية، وسط أنباء باحتمال أن يشهد عام 2023 موجة من انهيار آلاف من الشركات البريطانية مع استمرار تكلفة أزمة المعيشة، خاصة بعد أن كشف آخر التقديرات أن عدد الشركات التي باتت على وشك الإفلاس قفز بأكثر من الثلث نهاية العام الماضي، مع توقعات بارتفاع العدد بسبب تسديد الشركات القروض التي حصلت عليها خلال جائحة كوفيد، وانخفاض الاستهلاك، والمشكلات الناجمة عن خروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي.

بالطبع يحمل تيار من الخبراء -ومن بينهم خبراء حكوميون- جزءا كبيرا من المشكلات المركبة للاقتصاد البريطاني إلى قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، حيث إن أرقام وزارة التجارة الدولية تشير إلى أن قيمة صادرات المملكة المتحدة لن تصل إلى تريليون جنيه استرليني حتى عام 2035، ذلك بناء على الاتجاهات الاقتصادية الحالية، بل يتوقع أن تنخفض الصادرات البريطانية من 739 مليار جنيه استرليني العام الماضي إلى 707 مليارات جنيه هذا العام، على أن تعاود الارتفاع بحلول عام 2027 لتبلغ 725 مليار جنيه استرليني.

وعلق مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي قائلا “إن تجارة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي تراجعت بنسبة 14 في المائة في عام 2021 مقارنة بعام 2020، في الوقت الذي وجدت فيه الحكومة البريطانية صعوبة في إنهاء المفاوضات التجارية مع الاقتصادات الكبيرة مثل الهند والولايات المتحدة.

لكن تحديات الاقتصاد البريطاني والمصاعب التي تواجهه لا تقف عند هذا الحد. فالاقتراض الحكومي وصل إلى مستويات مرتفعة غير مسبوقة، تحديدا في ديسمبر الماضي، مدفوعا في ذلك بتكلفة الدعم الحكومي المقدم في مجال استهلاك الطاقة، وارتفاع تكلفة فوائد الديون نتيجة الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة، وبلغ الاقتراض البريطاني في ديسمبر فقط 27.4 مليار جنيه استرليني، وهو أعلى اقتراض في ديسمبر منذ عام 1993.

كما أنه يزيد كثيرا عن الشهر ذاته في عام 2021، عندما لم يتجاوز اقتراض الحكومة البريطانية 10.7 مليار جنيه استرليني، وبهذا بلغت ديون القطاع العام البريطاني في مطلع هذا العام -وفقا لبيانات مكتب الإحصاءات الوطني- 2.5 تريليون جنيه استرليني، أي نحو 99.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا المشهد لم تمر به بريطانيا منذ أوائل الستينيات.

تلك البيانات تعزز مشاعر التوتر لدى البعض عند تقييمه مسار الاقتصاد البريطاني على الأقل في هذا العام.

كريس فيليب رجل الأعمال والخبير الاستثماري يشير إلى توقعات بنك جولدمان ساكس بانكماش الاقتصاد البريطاني بنسبة 1.2 في المائة في 2023، وتلك النسبة من التراجع الاقتصادي هي الأعلى بين أكبر عشرة اقتصادات في العالم.

ويقول لـ”الاقتصادية”، “إن الانكماش الاقتصادي في المملكة المتحدة هذا العام سيكون عميقا مثل الانكماش الاقتصادي في روسيا، التي يتوقع أن ينكمش اقتصادها بنسبة 1.3 في المائة، حيث تشن حربا على أوكرانيا، وتفرض عليها عقوبات اقتصادية قوية”.

ويضيف “ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة قلصا من القوة الشرائية للأسر بشكل كبير، وعلى الرغم توقع توسع الاقتصاد البريطاني عام 2024 بنسبة 0.9 في المائة، فإن الاقتصاد الوطني سيشهد ركودا ضحلا لكنه طويل الأمد”.

مع هذا وعند إعداد هذا التقرير، أرسل مكتب الميزانية العمومية رسالة رسمية إلى وزارة الخزانة البريطانية يشير فيها إلى أنه بالغ في تقدير آفاق النمو للاقتصاد البريطاني التي أصدرها في نوفمبر الماضي، وآنه يرغب الآن في تعديل توقعاته بانخفاض نمو الاقتصاد الوطني، وأن الاقتصاد سينكمش هذا العام بنسبة 1.4 في المائة، لكنه سينتعش في العام المقبل ويحقق معدل نمو 1.3 في المائة يليه نمو 2.6 و2.7 في المائة في 2025 و2026 على التوالي.

وتنظر لورا كريس سيدة الأعمال، إلى الجانب المليء من الكوب، وتظهر تفاؤلا بشأن مستقبل الاقتصاد البريطاني. وتعلق لـ”الاقتصادية”، قائلة “أعتقد أن معظم الناس لديهم قناعة بأن ما يحدث من صعوبات في الاقتصاد البريطاني ليست مستدامة، وربما تعود إلى أن الدعم الحكومي الذي كان رائجا خلال الفترة التي تفشى فيها وباء كوفيد وصل إلى نهايته، ولا يوجد شيء في الأفق يتعلق بماذا سيحل محل هذا الدعم”.

وتضيف “كان لدينا وباء عالمي، وانتهى عصر الفائدة المنخفضة، وحرب في أوروبا، وارتفاعات ضخمة في الأسعار، ولذلك يمكنني القول إن الاقتصاد البريطاني رغم كل تلك الضربات أظهر مرونة لا تصدق”.

وبغض النظر عن تباين التقييمات حول وضع الاقتصاد البريطاني حاليا، فإن ما يقلق الجميع هو أن أغلب التقديرات تشير إلى أن سوق العمل ستبدأ في التدهور في النصف الأول من هذا العام، على أن يصل إلى 4.9 في المائة بحلول نهاية عام 2023، وإلى 5.9 في المائة بحلول منتصف العام المقبل، و6.4 في المائة بحلول عام 2025.

فالمتوقع أن يؤدي الركود الاقتصادي إلى زيادة البطالة، حيث يؤدي ضعف مستويات الإنفاق الاستهلاكي والتجاري إلى جانب ارتفاع التكاليف إلى دفع أصحاب الأعمال إلى اتخاذ قرارات صعبة بشأن مستويات التوظيف الملائمة، لكن المشكلة في المملكة المتحدة تبدو ذات أبعاد أكثر تعقيدا من ذلك.

وفي هذا السياق، يقول ال. دي ريتشارد الخبير السابق في منظمة العمل الدولية “إن التوقعات بارتفاع معدلات البطالة في المملكة المتحدة تأتي في وقت تكافح فيه الشركات للعثور على عدد كاف من الأيدي العاملة، في حين تجتاح البلاد موجة من الاضطراب في القطاع العام نتيجة رفض الحكومة زيادة الأجور، بما يضمن رفع أو الحفاظ على مستوى معيشة الطبقة العاملة، هذا الوضع يعني أن بريطانيا في طريقها إلى أن تكون الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي لا يزال التوظيف فيه أقل من مستويات ما قبل كوفيد”.

هذا الوضع تحديدا دفع وزير الاقتصاد في حكومة ويلز إلى دعوة حكومة حزب المحافظين البريطاني إلى الالتزام باستراتيجية اقتصادية طويلة الأجل ومستقرة لتحقيق النمو المستدام مع إعطاء أولوية للعمل طويل المدى لتوفير وظائف أفضل.

وبينما تركز وسائل الإعلام البريطانية جل اهتمامها على قضية التضخم، فإن معظم الخبراء يتوقعون أن يتراجع التضخم تدريجيا في وقت لاحق نهاية العام الجاري، رغم أن تكاليف المعيشة ستظل أعلى كثيرا من مستويات ما قبل جائحة كورونا.

ويرى هؤلاء الخبراء أن التحدي الأكبر حقا الذي يواجه الاقتصاد البريطاني يتمثل في نجاح أو فشل جيريمي هانت وزير المالية في استعادة ثقة المستثمرين بالشؤون المالية للحكومة، بعد الهزة التي تعرض لها الاقتصاد البريطاني نتيجة السياسات الاقتصادية الهوجاء لليز تراس رئيسة الوزراء السابقة.

مع هذا تبدو قضية العجز المالي الحكومي والاقتراض العام الذي يبدو في طريقة إلى مزيد من الزيادة الكبيرة هذا العام، وارتفاع فوائد الديون مع ارتفاع أسعار الفائدة في مقدمة الملفات المطروحة على جدول أعمال الحكومة البريطانية حاليا.

من جهته، توقع لـ”الاقتصادية” آرثر بارتيننجتون الخبير المصرفي، أن يصل عجز الميزانية إلى 177 مليار جنيه استرليني في العام المالي حتى نهاية مارس 2023، أي ما يقرب من 40 مليار جنيه استرليني أكثر من العام السابق، لكن هذا العجز يتوقع أن ينخفض تدريجيا على مدى الأعوام القليلة المقبلة.

وحتى تنجح المملكة المتحدة في زيادة صادراتها وتقليص ديونها وضمان الوظائف للأغلبية العظمى من الأيدي العاملة، سيظل الاقتصادي البريطاني ساحة خصبة للشكوك والتساؤلات القلقة والحائرة بشأن مستقبله ومكانته العالمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى