الغيرة بين الأدباء .. سلاح ناعم يسقط الأقنعة
تصلح مقولة “إن المرأة لا تعترف بجمال امرأة أخرى” للانطباق على المفكرين والأدباء، فالغيرة والحمية والإباء والترفع والشمم مشاعر سائدة بينهم، فما أكثر وقائع عدم الاعتراف التي تكررت في هذه الأوساط، وعلى مدار الحقب والأزمنة، لدرجة أن هذه القصص العابرة للحدود والحقول والأجناس، وهي حاضرة في الفلسفة والأدب، في الرواية كما في الشعر وغيرهما، أضحت بمنزلة ملح الطعام الذي يضفي المذاق والنكهة على كل عصر.
تبقى كيفية تصريف هذه المشاعر بين أهل الفكر وأصحاب القلم متقلبة من عصر إلى آخر، ففصيل من الأدباء اختار أسلوب المواجهة الصريحة والمباشرة، مشعلين بذلك فتيل حرب كلامية أتت على الأخضر واليابس، بنشر المواقف والآراء والانطباعات الذاتية من الآخرين، أمام الملأ في مذكرات أو رسائل. فيما فضل غيرهم اعتماد التقية وأسلوب التورية، مكتفين بالإشارة والتلميح بدل الفضح والتصريح.
امتاز الأدباء العرب القدماء بهذا النهج الذي تعج به متون الكتب التراثية، وأبدعوا فيه أيما إبداع، فأبو حيان التوحيدي مثلا كان كارها لابن العميد، الملقب بالجاحظ الثاني، فكتب عنه في كتاب “الإمتاع والمؤانسة” بأسلوب يبعد عنه أي تحامل على الرجل، فأسند الحديث عنه إلى ما صرح به غيره، بقوله “فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول: سمعت ابن ثوابة يقول: أول من أفسد الكلام أبو الفضل (ابن العميد)، لأنه تخيل مذهب الجاحظ، وظن أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدا من الجاحظ، قريبا من نفسه”.
وزاد التوحيدي بلسانه، هذه المرة بدلا من النسبة إلى الآخرين، مفسرا وشارحا أسباب ما يعده فشلا لابن العميد “ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ، وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد”.
وبين الشعراء، نتذكر المواجهة الشهيرة في حضرة سيف الدولة، بين أبي الطيب المتنبي مع أبي فراس الحمداني، حيث رفض هذا الأخير الاعتراف للأول بأصالة شعره، متهما إياه بالسرقة من الشاعر عمر بن العبد البكري، حين قال “سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا/ بأنني خير من تسعى به قدم، أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم”. واصل أبو الطيب شعره، غير آبه بالغيرة التي اشتدت في نفس أبي فراس، واصفا إياه بالحاسد، مخاطبا سيف الدولة ببيت مؤثر، قال فيه “إن كان سركم ما قال حاسدنا/ فما لجرج إذا أرضاكم ألم”.
واشتهرت بين المفكرين الغربيين تلك العداوة، الصريحة والدائمة، بين الفيلسوفين فولتير وجون جاك روسو، فالرسائل المتبادلة بين المفكرين تثبت للقراء أن فولتير لم يعترف يوما بشخص ولا بفكر جون جاك روسو، الذي عد نفسه تلميذ الأول، وأحد المعجبين به، وإن لم يلتق به يوما، رغم مراسلاته المتكررة، راجيا لقاء الفيلسوف صاحب الشهرة الواسعة داخل فرنسا، وخارجها في بريطانيا وألمانيا وهولندا.
وعندما طلب روسو رأي فولتير فيما يكتبه، جاءه الجواب قاسيا وصادما، ممن أنزله منزلة أستاذه، حين رد عليه بقوله “يتولد لدينا إحساس أننا نمشي على أربع، ونحن نقرأ كتابك”. ولم تتوقف نيران فولتير ضد روسو حتى عندما اشتد عوده، فقد هاجم بحدة كتاب “العقد الاجتماعي” الذي نعت مؤلفه بـ”البورجوازي الغبي”، ووصف الكتاب بأنه “لا يليق إلا بفيلسوف صغير يتردد على البيوت الصغيرة”. احتقار وازدراء شديدان دفعا بروسو إلى الكشف عن مشاعره تجاه فيلسوف التسامح الذي لم يكن متسامحا معه، حين وجه إليه رسالة، بتاريخ 17 حزيران (يونيو) 1760، جاء في مطلعها “أنا لا أحبك يا سيدي”.
في الحقبة المعاصرة، يبقى عبدالرحمن بدوي الفيلسوف المصري مثالا بارزا عن أولئك الكتاب الذين كتبوا تحت الأضواء، بأسلوب عنيف وحاد أحيانا، فسيرته التي حملت عنوان “سيرة حياتي”، التي وثقت فترات مهمة من تاريخ مصر والعالم العربي في جزأين، كانت حبلى بمشاعر السخرية والغضب والتكهم والغيرة من أسماء ثقيلة في معادلة الفكر والأدب، وحتى السياسة في الوطن العربي، بعيدا عن المواقف السياسية للرجل من ثورة 1952، ومجلس الثورة وجمال عبد الناصر، وما رافق العهد الناصري من تجاوزات من المخابرات والأجهزة الأمنية المصرية، بدعوى الاشتراكية، وما رافق ذلك من بروز نخب فكرية وثقافية وإعلامية مؤيدة للنظام، لا تتوانى عن الدعاية والترويج للناصرية، وتبرير أخطاء وسقطات ما بعد الثورة.
يبقى حجم النقد والهجوم مثيرا في مذكرات الرجل، فأغلب من عاصر بدوي لم يسلم من قلمه، فالجامعة مجرد عش للأفاعي، ينهش بعضها بعضا، والعمداء لم يصلوا إلى المنصب بالعلم أو الكفاية الإدارية الجامعية، بل بالصلات مع من في الحكم. وعد الأديب أحمد أمين حقودا حسودا، والفيلسوف أحمد فؤاد الأهوان سطحيا، زكي نجيب محمود صاحب كتابات أدبية بلا عمق، لا ترقى إلى مستوى كتابات طالب في المرحلة الإعدادية، لكونها مجرد تلخيص لأعمال وول ديورانت المفكر الأمريكي، واتهم الشيخ محمد عبده بصداقة وموالاة الاستعمار الإنجليزي.. وهكذا تتوالى الأسماء “عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، سعد زغلول…”، التي لحقتها نيران بدوي في مذكراته.
بمقدور الغيرة أن تدمر كل شيء، لكونها تشوش العقل ولا تسمح بالتفكير المتعقل، بحسب ماريو فارجاس يوسا الكاتب البيروفي. وتبقى قصة ياسوناري كاواباتا ويوكيو ميشما الأديبين اليابانيين مثالا حيا على ذلك، بعدما أنهت غيرة الأول من الثاني صداقة امتدت لأكثر من نصف قرن، بعد نجاح كاواباتا في الظفر بجائزة نوبل للآداب عام 1968، ما دفع ميشما إلى الانتحار في نوفمبر 1970. عامان بعدها سيختار كاواباتا بدوره الانتحار، وكأنه رد غير معلن على طريقة رحيل صديقه السابق.
كتبت إنجيبورج باخمان الأديبة النمساوية، تعليقا على انتحار صديقها، “الغيرة، لا أحد يعرف هل هي مرض أم طبع أم شيء مكتسب، لكن الإنسان المصاب بالغيرة قد يفقد أمورا كثيرة في حياته”. ما أعقد الغيرة بين الناس العاديين، فبالأحرى حين تكون بين نخبة القوم وصفوة المجتمع، فالمشهد حينها يراوح ما بين لحظة مكابرة الأنا لإظهار سمو ورفعة الذات، ولحظة انكسار وضعف وهوان تكشف هشاشة النفس البشرية.