الاحتفاظ بالقديم .. في الالتباس بين المرض والهواية
العناية بالأشياء الغريبة أو الشائعة هواية مارستها الأكثرية منا، في حقبة عمرية معينة، فجمع القديم أو النادر أو الطريف أو حتى التافه أحيانا، لما تمثله من تجسيد مادي لجميل الذكريات وتذكير بغريب الوقائع، شغف رافق الإنسان منذ غابر الأزمان. الاكتناز سلوك منتشر في عالم الثدييات، بما في ذلك البشر، حيث تفيد الأبحاث أن فكرة تخزين الطعام موجودة لدى أكثر من 70 نوعا من الحيوانات، وهذا أمر منطقي لاقترانه بالرغبة في البقاء على قيد الحياة.
تطورت الفكرة، عبر الزمن، لدى الإنسان، فأخذت أبعادا أخرى تتجاوز هدف الحفاظ على البقاء، بظهور أفعال وممارسات إنسانية مرتبطة بنوازع أخرى أبعد ما تكون عن السعي نحو النجاة. هكذا أضحى الاهتمام بالأشياء القديمة والتحف الفنية هواية تحتاج إلى إشباع، وصارت لدى فئة من هؤلاء تجارة مربحة، تخضع لمبادئ وقواعد، يضمن الالتزام بها الأموال الطائلة لممارسيها. لا ينظر آخرون إلى المسألة بعيون الهواية ولا التجارة، وإنما مجرد هوس مرضي يعتري النفوس بحاجة إلى علاج طبي.
جمع التحف الفنية لدى جماعة مجرد هواية تمارس، على غرار أخواتها، للتسلية والاستمتاع ولم لا التنافس الرمزي بين الممارسين، وما البون الشاسع في طبيعة ونوعية وأصناف إلا دليل قاطع على ذلك. فقد يبدأ الأمر من الحجارة النادرة والطوابع البريدية والعملات المعدنية والقطع الأثرية والتسجيلات الموسيقية. وطبعا، لا ينتهي عند غرائبيات من قبيل، الدمى والأحذية والميداليات والأزرار وتوقيعات المشاهير وخصل الشعر والحيوانات المحنطة والملاعق والأسنان والجماجم والعظام…
يحدث أن تنقلب هذه الهواية، مثل حال معظم الهوايات، مصدرا للربح والتكسب المادي للكثيرين، وفقا لقاعدة مشهورة مفادها “ما قدم عمره، زاد ثمنه”، ما يدفع بطائفة من الهواة بلغوا درجة الاحتراف إلى المغامرة، وكأنهم مضاربون في أسواق البورصة، باقتناء نفائس التحف ونوادر الأشياء. تبقى ثنائية الندرة والزمن عنصران جوهريان لكسب الرهان، فالأمر أشبه بالاستثمار في أشياء مع انتظار أن يزداد ثمنها بمرور الوقت، وتظل الخبرة محددا مهما في هذه العملية، سواء ما يتعلق بالشراء (مخاطر التقليد) أو ما يرتبط بالبيع (الأسعار).
ترفض أقلية حضور البعد المادي في الهواية، فالأمر يوجد حالة تناف غير مقبولة في نظرهم، فلا يعقل أن تصبح الهواية والتجارة وجهان لعملة واحدة. انتصارا لهذا الموقف، استحدث هؤلاء هوايات غريبة، فاهتم بعضهم بأشياء لا تخطر على بال، مثل، المسامير، حيث يمتلك ريتشارد جونز مجموعة، تضم ثلاثة آلاف مسمار جمعها من 50 دولة. والهواتف المحمولة، بالنسبة للألماني كارستين تيوس، إذ يتوفر على مجموعة من 1563 هاتفا محمولا. وبلغت الإثارة مستوى قياسيا، عند الإيطالي لورينزو بيسكيني الذي جمع 8650 قارورة مياه بلاستيكية، ولدى فرانسيسكو فيرنيتي الذي يتوفر على مجموعة تزيد على 11 ألف علامة “يرجى عدم الإزعاج” جمعها من فنادق شتى من مختلف بقاع العالم.
تطرف هؤلاء يبقى محصورا في طبيعة ما يجمعون، ويظل مقبولا مقارنة بـالمصابين بالاكتناز القهري أو اضطراب الاكتناز، ومعناه الإفراط في تكديس وتجميع المقتنيات، مع صعوبة كبيرة في اتخاذ القرار بشأن التخلص من الأشياء الشخصية غير الضرورية. يتولد شعور مستمر لدى المصابين بالحاجة لاستخدام هذه الأشياء فيما بعد، ما يجعل قرار التخلي عنها صعبا، بذلك يكون التخزين غير المفهوم هو الحل.
يعيش كثير من مواطني الدول الصناعية في مقبرة الأشياء، فالتعويض عن نقص ذاتي أو مشكلة اجتماعية يكون بإغراق الذات في مستنقع الأشياء بجمع أشياء تبدو للغير تافهة وبلا قيمة. يزداد الأمر سوءا لحظة الوقوف عند صعوبة التخلص من أكوام من الأشياء، عادة ما تعوق قدرة الإنسان على الاستفادة من مكان العيش براحة تامة، وأحيانا تحوله إلى مقبرة حين يصبح تائها أو تالفا وسط ركام من الأشياء.
ما سبق، يدفع نحو البحث عن خيط التمييز ما بين مرض التكديس القهري وهواية جمع الأشياء، فالتشابه بينهما قائم حد التداخل في نظر الكثيرين. إذ تتأسس الهواية على النظام والقواعد والأهداف، فالجمع يكون وراءه غرض وغاية. نقيض الاكتناز، حيث التكديس بشكل عشوائي بلا نظام ولا غرض، لأن محرك العملية عامل ذاتي مرتبط باضطراب الوسواس القهري أو الاكتئاب الحاد أو الخرف العقلي…
يبقى محدد جمعية القلق والاكتئاب الأمريكية ضابطا للفيصل بين المرض والهواية، فالموضوع فعلا وجهان لعملة واحدة سند التحديد هو الغاية. هكذا يكون حفظ الأشخاص الذين يعانون التكديس للأشياء قائما على أساس فرضية الحاجة إليه مستقبلا، أو حتى الخوف من خسارة أشياء ذات قيمة عاطفية خاصة لديهم. وربما الاعتقاد بأن ما يكدسون صفقة كبيرة جدا يستحيل التخلص منها، أو أن ما يكتنزون نادر لدرجة لا يمكن الحصول عليه مرة أخرى، ما يمنح أفضلية لترجيح خيار الاحتفاظ به فقط.
أعاد استغلال التكنولوجيا لهواية التحف والنوادر الاعتبار بعدما استطاع نقلها من الماضي للعبور نحو الحاضر، حيث باتت متاحة بين يدي الجميع. وبالقدر نفسه أو – ربما أكثر قليلا – أعاد عمال شركات التنظيف موضوع الاكتناز في البيوت، لدرجة أن أعمالا سينمائية كثيرة تتناول فكرة الاكتناز التعسفي. وبينهما تزداد حالات الطرف، بأحد الاتجاهين، فتقرير مجلة يتحدث عن هواية جمع البراغيث بحفظها في قنان تحتوي محلولا، وتهمل مكان الموطن ومعطيات عن الإنسان أو الحيوان الذي أخذت منه.