هاروكي موراكامي .. عداء يخبرك أسرار الكتابة الروائية
من الغريب أن تسمع عداء يتكلم عن الرواية، بغرابة حديث الأديب عن رياضة الجري ذاتها. معادلة استطاع هاروكي موراكامي الروائي الياباني حلها، في كتاب أشبه بالمذكرات، حمل عنوان “ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري”، يكشف تقاطعات عوالم الأدب مع الرياضة في حياته، فـ”الكتابة بصدق عن الجري والكتابة بصدق عن نفسي كانتا الأمر نفسه تقريبا… لا بأس بقراءة هذا، باعتباره نوعا من المذكرات المرتكزة على فعل الجري”.
الجري كفعل إنساني في غاية البساطة، لكنه كموضوع للكتابة والتأمل في منتهى الغموض، فالمواظبة على أي فعل مهما كان بسيطا وقتا كافيا، تجعله فعلا يدعو إلى التأمل، بل فعلا تأمليا. خلاصة حاول الكاتب أن يشاركها القراء، بسرد ذكريات من ممارسته هواية الجري، من أسباب عشق هذه الرياضة تحديدا دون غيرها، إلى إسقاطاتها على حياته المهنية، ككاتب وروائي ذاع صيته في الأقطار، ما جعل “سيرة الجري”، رغم أنها حقيقة ليست كذلك، مراوحة بين تأملات فلسفية ودروس من تجربة حياتية.
عن فلسفة رياضة الجري
اختيار موراكامي الجري عن باقي الرياضات مرتبط بدافع شخصي، مفاده عدم قدرة الرجل على الانسجام مع الرياضة الجماعية التي تلعب مع الآخرين. وآخر موضوعي، فالجري لا يحتاج إلى أي شخص آخر ولا إلى معدات بعينها، كما أنه لا يفرض الذهاب إلى مكان محدد لممارسته. لا يلتزم المقبل عليه سوى بنظام لتقسيم وقته وطاقته، حتى يغنم فوائد رياضة ممتعة، بدأها الكاتب في سن متأخرة نسبيا، تحديدا عندما كان في الـ33 من العمر، قبل أن يصبح عداء محترفا، ينافس على أشهر سباقات المارثون في العالم “نيويورك، طوكيو…”.
ينثر العداء على امتداد صفحات الكتاب نصائح أو قواعد للمقبلين على هذه الرياضة، فلا وجود للغريم في الجري، “الخصم الوحيد الذي يتعين عليك هزيمته في جري المسافات الطويلة هو نفسك، وما اعتدت أن تكونه”. كما أن الاهتمام يجب أن يكون بالأهداف التي يضعها العداء لنفسه، وليس السعي وراء إلحاق الهزيمة بالآخرين. لأن هدفك حينها يكون مهددا، “ماذا سيحدث لو أن خصمك -لسبب ما- خرج من المنافسة؟”، لا محالة سيتلاشى ما حفزك على الجري أو على الأقل سيتضاءل، ما يجعل مواصلة الجري عملا شاقا.
أضحى الجري ركيزة أساسية في الروتين اليومي للكاتب، فهو يجري بجدية، كما يقول، وتصل الجدية عنده إلى مسافة ستة أميال في اليوم، طيلة الأسبوع باستثناء يوم واحد للراحة. لكن روتين الجري في الفراغ أو بالأحرى بحثا عن الفراغ، قد تتولد عنه فكرة عرضية، تنزلق في هذا الفراغ، فالمبدع موقن بحقيقة أنه “لا يمكن أن تكون أذهان الناس فارغة كليا، فعواطف البشر ليست قوية أو متماسكة بما يكفي لإدامة الفراغ”.
في غمرة السرد عن مغامرات الركض، يأخذك الكاتب جيئة وذهابا نحو عوالم الكتابة الأدبية، فقضاء ساعة أو اثتنين في الجري وحيدا كل يوم، مفيد عند الجلوس إلى مكتبه لأربع ساعات أو خمس في اليوم، وكلاهما ليس بالأمر الصعب ولا الممل. كما أن الكتابة على غرار الجري “بغية استمرارك عليك أن تحافظ على الإيقاع، وهذا أمر مهم للمشاريع طويلة الأمد”، فلكما زادت السرعة قل الحيز الزمني للجري، ما يؤثر في النشوة التي تتلو نهاية كل جولة، وتدوم حتى الموعد الموالي.
المشترك بين الجري والكتابة
القاعدة ذاتها تنطبق على التأليف الإبداعي، فكتابة الرواية تتطلب التوقف كل يوم عند النقطة التي يشعر فيها أنه قادر على الكتابة أكثر، وبأسلوب أشبه بالنصح للكتاب المبتدئين، يقول “جرب ذلك، وسيدهشك مضي عمل اليوم التالي بسلاسة”. هكذا يقدم العداء درسا في عالم التأليف، “أنا لم أجد الكتابة صعبة قط. وما جدوى الكتابة إذا لم تكن مستمتعا بها؟ أنا شخصيا لم يدخل دماغي قط الكاتب المعذب”.
على النقيض من ذلك تماما، كان دخول عالم الكتابة والإبداع بمنزلة انعطافة في حياة الرجل، فغادر روتين الحانة التي يديرها، بمعية زوجته في مدينة طوكيو، نحو حياة جديدة بنظام صارم، بدأه بالتوقف عن التدخين، وممارسة الجري، بحثا عن حياة صحية، تتيح له القدرة على الإنتاج حتى آخر يوم في حياته. كل ذلك، بناء على رغبة ذاتية مطلقة، فكما جاء على لسانه “لم أبدأ الجري لأن أحدا طلب مني أن أكون عداء، مثلما أنني لم أصبح روائيا لأن أحدهم طلب مني ذلك. ذات يوم، فجأة، رغبت في كتابة رواية، وذات يوم بدأت الجري، لأني أردت ذلك ببساطة”.
هكذا جاء البرنامج في حياته الجديدة مضبوطا، فنسج خيوط الكتابة ينطلق من الرابعة فجرا، بمعدل ست ساعات يوما، برفقة أنغام موسيقية مختارة بعناية، لتداعب صمت عوالم الكتابة. بعد قيلولة الظهيرة، يغادر نحو عالم الجري، مسافة لا تقل عن عشرة كيلومترات، وأحيانا وعلى سبيل الاستثناء يختار السباحة. يبقى المساء للقراءة التي لن تتعدى في كل الأحوال موعد النوم، في حدود الـ10 ليلا. لتتكرر الأنشطة ذاتها في اليوم الموالي، وبالإيقاع نفسه على مدار الأسبوع، فهذه الصرامة أساس الإبداع، “أحافظ على هذا الروتين يوميا بلا تغير.. التكرار نفسه يصبح شيئا مهما. إنه نوع من التنويم المغناطيسي. أنوم نفسي مغناطيسيا لأدرك حالة ذهنية أعمق”.
لا فرق بين العداء والروائي، فكلاهما في سباق مع الذات، ضد الدقائق والساعات أو الحروف والكلمات، ما يجعل الخلاصة واحدة بالنسبة إلى موراكامي، إذا رغب المرء في أن يعيش أعوامه بسعادة، فالأفضل “أن تحياها بأهداف واضحة، وأن تكون حيا بمعنى الكلمة على أن تحياها مشوش الفكر. وأنا أؤمن بأن ممارسة الجري تساعدك على ذلك”. هكذا يكون إعداد البدن بالمران والتدريب ضمن نطاق القدرات الفردية جوهر رياضة الجري، ومجاز المران ذاته ينطبق على الكتابة والتأليف، في نظر الكاتب.
من الدروس القوية في مسيرة كاتب لا يرغب في ذلك، كما يردد دائما “لم أرغب في أن أصبح كاتبا، لكنني صرت كذلك. والآن لدي عديد من القراء في عديد من الدول. أعتقد أنها معجزة، علي أن أتواضع أمامها. أنا فخور بذلك وأستمتع به، ومن الغريب أن أقول ذلك”، لإيمانه المطلق بذاته وأفكاره، كان حريصا على فعل ما يحب رغم مساعي الآخرين نحو ثنيه عن ذلك. فحين اكتشف وحش الكتابة الخامد في داخله انتصر لمبدأ، يعود ربما إلى أصوله المتحدرة من سلالة الساموراي، ألا وهو الانخراط بوفاء في العمل، فأنصاف المحاولات تكون عادة بلا طائل.
مذكرات الجري أشبه برسالة، يحاول من خلالها موراكامي إثبات نجاحه في حل مشكلة المماهاة بين الجسدي والذهني، فالقاعدة أن ضبط اتجاه بوصلة العقل مع اندفاع الجسد غير قابل للتحقق في عوالم الكتابة والإبداع، حيث الاعتكاف اليومي وسط الكتب والأوراق، عادة ما يكون على حساب البنية الجسمانية للمبدع، بوزن زائد وعضلات مترهلة وكثرة إنتاج للشحوم مع سوء توزيعها. هكذا ينتصر الرجل لقوله في رواية “كافكا على الشاطئ” بأن “السعادة لها شكل واحد، أما التعاسة فتأتي بالأشكال والأحجام كافة”.