غنوا للأرض فجادت عليهم.. أغاني الحصاد تراث عريق تصدح في حقول بلادي
منذ فجر التاريخ ولدت قصص العشق بين الإنسان السوري وأرضه، وعلى امتداد الحقول من الجزيرة السورية إلى سهول حوران جادت الأرض على أبنائها، بعد أن بادلوها المحبة والجهد، وما دلت عليه البعثات الأثرية التي نقبت في مختلف بقاعها ووجدت اللقى والمعدات الزراعية والفخاريات الأثرية التي تحفظ الأقماح إلا شاهد على عراقة هذه الأرض وخيرها العميم منذ القدم وحتى يومنا الحاضر.
ويحفل التراث الشفاهي اللامادي السوري بالكثير من الطقوس والعادات التي لا يزال الأهالي يمارسونها أثناء عمليات حصاد أرضهم المزروعة بالقمح والشعير، ولا يزال يسمع صدى الأغاني والعبارات يتردد في حقولنا الخيرة التي تبث العزيمة وتشحذ الهمم في نفوس من يقومون بهذه المهمة يدوياً من أجل جني تعب العام كله.
الباحث التراثي أحمد الحسين ممن بحث في هذا الجانب ولديه العديد من الكتب والأبحاث المختصة في توثيق التراث اللامادي في الجزيرة السورية بين أنه في مطلع القرن العشرين كانت المساحات المزروعة في الجزيرة السورية قليلة، ثم أخذت تتسع وتزداد شيئاً فشيئاً حيث اشتهرت بزراعة القمح والشعير والذرة والقطن، ففي فصل الخريف يحمل الفلاح بذور القمح أو الشعير وينثرها بيديه في الأرض التي يريد زراعتها وهو يردد بخشوع عند كل حفنة حبوب ينثرها باتجاه السماء “للطير وما قسم الله” ، ثم يطمرها بتراب الأرض المحروثة باستخدام الفدان.
ويشير الباحث الحسين إلى أن لطقس الحراثة والبذار قدسية، وله الأغاني والأهازيج الخاصة يستعين الفلاح بها للترويح عن نفسه، فيستحضر صورة الفتاة التي يحبها، ويتخيل مرورها بالقرب من حقل فلاحته فيقول: “جت تتخطى من ورا الفلحاني .. كسرت ظهيري وعطلت فداني”.
وعندما يقترب موعد موسم الحصاد يستعد الفلاح له بتجهيز المناجل وشحذها، ويبدأ الحصاد اليدوي في فصل الصيف وهو عمل يختص به الرجال وتساعدهم فيه النساء بنقل الماء والطعام وجمع باقات السنابل ونقلها وتجميعها في أكداس تعرف بالبيادر.
ويوضح الحسين أن الحصاد يعد من الأعمال الشاقة ولهذا كان الحاصود يتمنى لو كان راعياً أو مريضاً وقت الحصاد، وتعبّر أغاني الحصاد عن صعوبة العمل ومشقته وتصف معاناة الفتاة التي تشارك الرجل عمله، وأثر حرارة الصيف على ملامح وجهها وقسماتها الرقيقة التي تكويها حرارة الصيف فيقول: “حاصود وارملها سبل وبريطم الحلوه ذبل “، مبيناً أن أغاني الحصاد تتسم بطابع عاطفي ووجداني ونلمح مشاعر الرجل وحبّه للمرأة التي قد تفارقه عند انتهاء موسم الحصاد، ونسمع تغزله بجمالها وتعلقه بها.
ويشير الحسين إلى أن ألوان الغناء التراثي حفلت بأهازيج الحصاد، ولا سيما “الموليه والمامر وهلا بالوارده ورواحي يمّه وخبب يمشي المدلل” وهي من أشهر الأهازيج على ألسنة الحصادين ذات مقاطع ووحدات كثيرة تسري فيها رقة وعذوبة وانسياب في الأداء يتوافق في مقاطعه مع حركة أيدي الحصادين، وهي تهوي بالمناجل لحصاد سنابل القمح ومن بين مقاطع هذه الأغاني قولهم “خبب يمشي المدلل بأزرق النيلي ومن حبك يا حلوة منهدم حيلي”، وقولهم “الله على أَبو الزلف عيني يموليه .. يا بيض لا ترحلن ظلن ونس ليه”، وقد تأخذ الأغنية طابعاً حماسياً ينشر مناخاً من الشجاعة وإثارة الهمم كقولهم: “ربعي دوم مونسين البر.. مسقين العدوان من المر”.
وبالعودة إلى جنوب سورية وتحديداً إلى سهل حوران وما أن يلوح اللون الأصفر على مد النظر في الحقول وتشتد معه درجات الحرارة حيث يستنهض أهالي كل قرية همم بعضهم البعض ويتحول حصاد الحقل الواحد إلى عمل جماعي يشارك فيه الجميع من أصحاب الحقل والأقارب والجيران في القرية وفي الحقول المجاورة، فالحصاد اليدوي يستغرق أشهراً طويلة وعملاً متواصلاً يبدأ في ساعات الليل الأولى وينتهي عند الظهيرة أو قبلها قليل.
ويقول الباحث وملحن الأغاني التراثية فهد العبود: إن “الحصاد في حوران يبدأ مع ظهور ما يسمى بغزلان الندى، وهي غيوم بيضاء تظهر في السماء ومنها يستدل الفلاحون على بدء ظهور الندى أو الرطوبة وهنا يستعد الحصادون لعملية الحصاد التي قد تبدأ قبل منتصف الليل وتنتهي قبل الظهيرة”، مشيراً إلى أن أعداداً كبيرة تشارك في الحصاد وكل له دوره مستخدمين المناجل، وفي بعض الأحيان أيديهم حسب طول القمح، مبيناً أن هناك أغاني متعددة ترافق استخدام المنجل ومنها:
منجلي يامن جلاه راح الصايغ وجلاه
ماجلاه إلا بعلبة والعلبة راحت فداه
ويرافق الحصاد حسب العبود طقوساً اجتماعية متعددة، حيث تقسم المهام بين الكبار والصغار، وبين الرجال والنساء فالكبار الأشداء يحصدون القمح، وأما الأطفال الصغار فتوكل إليهم مهمة جمع الشمايل وهي ما يتركه الحصادون خلفهم من كميات قليلة، وتجمع على شكل كومات من القمح تسمى الحابون.
ويتم رفعها بأداة الشاعوب لنقلها إلى ظهر الحيوانات تمهيداً لمرحلة الرجاد.
ويضيف العبود: “إن الرجال والنساء يتشاركون الحصاد إلا أن مهمة إعداد الطعام للحصادين توكل لأكبر النساء في المنزل ومعها بناتها وزوجات أبنائها، ويكون الطعام عادة من البقوليات ومنتجات القمح كالمليحي وشوربة العدس والمجدرة والبرغل بالبندورة، وغيرها من الطعام الذي يمد الحصادين بالطاقة”.
وأوضح أن أجمل طقوس الحصاد هي (الجورعة) والتي تؤذن بانتهائه ويتم فيها توزيع الحلويات كالراحة الحورانية والبسكويت والهريسة، لافتاً إلى أن لدى فلاحي حوران عادة أثناء الحصاد وهي البوركة (التبارك)، حيث يقدمون حفنات من القمح للأطفال الذين يمرون ببيادر القمح وبدورهم يذهب الأطفال لدكان القرية لمقايضة حفنات القمح بالحلويات أو المأكولات الأخرى.
ويشير العبود إلى أن طقوس الحصاد في درعا لا زالت حاضرة في أذهان المعمرين إلا أن ذلك وحده لا يكفي فهذه الطقوس مهددة بالنسيان وهو ما دعا مديرية ثقافة درعا والعديد من الفرق الفنية في المحافظة لتجسيد لوحات فنية مترافقة بأغاني الحصاد، موضحاً أن المديرية أنجزت قبل أشهر قليلة بالتعاون مع فرقة نقابة فناني درعا عملاً فنياً يوثق الحصاد كما قدمت فرق ازرع وسنابل حوران ودرعا عدة لوحات عن الحصاد.
وتبدو الطقوس الاجتماعية التي رافقت الحصاد مرتبطة أيضاً بمراحله ابتداء من حقل القمح وانتهاء بجمعه في أماكن التخزين، ويوضح الباحث نضال شرف من مدينة نوى ومؤلف كتاب القمح الحوراني بين التاريخ والتراث أنه قبل بدء الحصاد يجهز الفلاحون أدواتهم من مناجل أو حواشيش وشواعيب وشباك وجمال والتي يستخدمونها في نقل القمح من الحقل المحصود إلى البيدر، فضلاً عن أن عملية الحصاد ليست قراراً فردياً يتخذه صاحب الحقل فهناك شيخ البلد أو القرية هو من يعطي الإيعاز بالبدء بالحصاد ليشارك الجميع فيه، مشيراً إلى أن للحصاد أغاني وأهازيج ترتبط بكل مرحلة من مراحله وبعضها يدل على القوة، والبعض الأخر للتشجيع على العمل وبعضها عاطفي.
ويشير الكاتب إلى أن من الأهازيج ما تداوله أهل حوران على مر عقود طويلة:
اني الشايب واني العود واني بالفين معدود
طمن واحنيلي ظهرك يابعد ظهيري تو ظهري صار يلين ينطوي طي العجين
ومن أغاني الرجاد أو الرواجيد:
وتصيح ماحلو وتصيح ماحلو
شعر البنية مرس راجود ماحلو
يارجادين الزرع خففوا من حالو قلبي من الفرقة لوى من يوم ماشالو
ومن أغاني الدراسة:
ياحمرة لوحيلي لوح أربعة ماجروا اللوح واني جريتو وحدي وحدي وحدي وانا
احدي
ومن أغاني التذرية:
يالله هوى و يالله هوى غربي سوا غربي سوا
ويذكر شرف أن مراحل الحصاد تبدأ بحصاد القمح بالمناجل تليها مرحلة الرواجيد، ومن ثم مرحلة الدراسة لفصل القمح عن قشرته ومرحلة التذرية ومرحلة الغربلة ومرحلة التخزين لاستخدامه لاحقاً، لافتاً إلى أنه في نهاية عملية الحصاد يعقد الفلاحون حلقة بقطر عشرين متراً في أرض البيدر ويغنون ويرقصون الجوفية، وهي إحدى الدبكات المعروفة في حوران، ويمسك أحدهم برزمة قمح ويضعها في حفرة تحت الأرض إيذاناً بالحياة بعد الموت، مشيراً إلى أن أهالي حوران قديماً حتى سنوات قليلة حافظوا على طقوس الحصاد لكن دخول الحصاد الآلي أسهم في تراجعها.
سانا