25 عاماً على الرحيل.. وكلمات نزار قباني ترسم ألحاناً أقوى من النسيان
زمن مضى، ولم تمت حروف نزار قباني بل بقيت حاضرة لدى كل متذوق للجمال، ولم تزدها السنوات إلا عشقاً، وغدت طوق ياسمين يحوم عبر الأثير، ويعلم الناس في مدرسة الحب ليترك لقارئة الفنجان أسراراً ما زال العشاق حتى يومنا هذا يحاولون فك ألغازها، لينهلوا المزيد من طريقة نزار قباني الخاصة في التعامل مع الحياة والحب والوطن.
نزار قباني الذي يصادف اليوم الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لوفاته، شكل حالة شعرية وإنسانية خاصة، فانتصر بكلماته على الموت والرحيل والحزن في قصائده التي ما زالت تتردد على ألسنة كل عاشق لعالم الكلمة.
وريث الإبداع
ولد نزار في دمشق القديمة منذ مئة عام في حيّ مئذنة الشحم في الـ 21 من آذار عام 1923، وشبّ وترعرع في بيت دمشقيّ تقليديّ لأسرة عربية دمشقية عريقة، وبحسب ما يقول في مذكراته فقد ورث نزار من أبيه ميله نحو الشعر، كما ورث عن جدّه خليل القباني حبه للفن بمختلف أشكاله.
ووفق مذكرات نزار، فإنه خلال طفولته كان يحبّ الرسم، ولذلك وجد نفسه بين الخامسة والثانية عشرة من عمره غارقًا في بحر من الألوان، وقد ذكر أن سِرّ مَحبّته للجمال والألوان واللون الأخضر بالذات أنه في منزلهم الدمشقي كان لديهم أغلب أصناف الزروع الشاميّة، من زنبق وريحان وياسمين ونعناع ونارنج، وكأي فتىً في هذا السن، ما بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة احتار كثيراً ماذا يفعل، فبدأ خطّاطاً، تتلمذ على يد خطّاط يدويّ، ثم اتّجه للرسم وعشقه، حتّى أن له ديوانا سمّاهُ “الرسم بالكلمات”.
ومن ثم شُغف نزار بالموسيقا، وتعلّم على يد أستاذ خاص العزف والتلحين على آلة العود، لكنّ الدراسة وخاصة خلال المرحلة الثانوية جعلته يعتكف عنها.
ثُمّ رسا بالنهاية على الشعر، وراح يحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وطرفة بن العبد، وقيس بن الملوح، متتلمذًا على يدِ الشاعر خليل مردم بك، وقد علّمه أصول النحو والصرف والبديع.
وفي عام 1939 كان نزار في رحلة مدرسية بحريّة إلى روما، حين كتب أول أبياته الشعريّة متغزلاً بالأمواج والأسماك التي تسبح فيها، وله من العمر حينها 16 عاماً، ويعتبر تاريخ الـ 15 من آب 1939 تاريخا لميلاد نزار الشعري، كما يقول متابعوه.
وفي عام 1941، التحق نزار بكلية الحقوق في جامعة دمشق، وتخرّج منها في عام 1945.
ونشر خلال دراسته الحقوق أولى دواوينه الشعريّة، وهو ديوان “قالت لي السمراء”، حيث قام بطبعه على نفقته الخاصة، وقد أثارت قصائد ديوانه الأول، جدلاً في الأوساط التعليمية في الجامعة، وقد كتب له مقدّمة الديوان منير العجلاني الذي أحبّ القصائد ووافق عليها.
الشاعر الدبلوماسي:
تخرج نزار قباني عام 1945 من كليّة الحقوق بجامعة دمشق، والتحق بوزارة الخارجية السوريّة، وفي العام نفسه عُيّن في السفارة السوريّة في مصر، وله من العمر 22 عاماً.
ولمّا كان العمل الدبلوماسي من شروطه التنقّل لا الاستقرار، فلم تطل إقامة نزار في القاهرة، فانتقل منها إلى عواصم أخرى مختلفة، فقد عُيّن في عام 1952 سفيراً في المملكة المتحدة لمدة سنتين، وأتقن خلالها اللغة الإنكليزية، ثم عُيّن سفيراً في أنقرة، ومن ثمّ في عام 1958 عيّن سفيراً في الصين لمدة عامين.
وفي عام 1962 عيّن سفيراً في مدريد لمدة 4 سنوات، إلى أن استقرَّ في لبنان بعد أن أعلن تفرغه للشعر في عام 1966 ، حيث أسس دار نشر خاصة تحت اسم «منشورات نزار قباني».
وبدأ نزار قباني بشكل بارز بكتابة الشعر العمودي، ثم انتقل بعدها إلى شعر التفعيلة، حيث ساهم في تطوير الشعر العربي الحديث إلى حد كبير.
قارورة العطر:
إبداع الشاعر نزار قباني لم يكن ليتفجر لولا البيئة الجمالية التي نشأ فيها، والتي أطلت بقوة عبر شفافية مشاعره وتلمسه العالي لتفاصيل الجمال ورقة وعذوبة مفرداته، فوصف منزله الذي نشأ فيه بقارورة العطر، وقال: “هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة”، وتابع: “إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا”.
عن دار نزار قباني تحدث المهندس علي المبيض نائب محافظ دمشق في تصريح لـ سانا قائلاً: “إن هذا البيت الذي وصفه الشاعر بقارورة العطر شهد تفتح أولى البراعم الشعرية لشخص يعد من أهم الشعراء في القرن العشرين”.
وأشار المبيض إلى أنه عندما كان معاوناً لوزير الثقافة منذ خمس سنوات قامت الوزارة بتعليق لوحة دلالية على منزل الشاعر الكبير، ووجد آنذاك صعوبة في العبارة التي يمكن أن يضعها على اللوحة، لأن الشاعر امتلك ناصية اللغة وأسس مدرسة خاصة في اللغات والمصطلحات، فأي عبارة ستغدو ضعيفة أمام كلماته، ولكن في النهاية تم وضع شطر من الشعر الذي ألّفه نزار، وهو “هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي.. هنا سكن نزار قباني”.
ولفت المبيض إلى أن هذا المنزل الذي تأثر به الشاعر نزار قباني ورافقه طيلة فترة حياته يتقاطع فيه الحاضر بالماضي، حيث عاش الشاعر طفولته في هذا البيت، وترك قسماته واضحة على شعره ونثره طيلة حياته، ولا ننسى أنه عندما كان في إسبانيا في قرطبة أحس أنه يعيش في دمشق، وقال عن ذلك : “بأزقة قرطبة الضيقة مددت يدي إلى بيتي لأجد مفتاح بيتي في دمشق”.
وأشار المبيض إلى وصية نزار التي ربط من خلالها نفسه بدمشق إلى الأبد، والتي قال فيها: “أنا الموقع أدناه الشاعر الكاتب العربي نزار قباني، أعلن عن رغبتي أن ينقل جثماني إلى دمشق ليدفن فيها في مقبرة الأهل، وأرجو تنفيذ هذه الرغبة لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر والإبداع وأهداني أبجدية الياسمين”.
العاشق الدمشقي:
لم تكن رغبة نزار أن يدفن في دمشق محبوبته الأولى بغريبة على عاشق مثله حتى البكاء، فقد تجذرت حالة عشق دمشق في دم نزار، فأصبحت دمشق معشوقته الأولى حتى ارتبط اسمه باسمها، فنزار هو دمشق ودمشق هي نزار.
وقد كاد شعر نزار يكون كله عن دمشق، فخلّد نزار تلك العلاقة الخاصة بمدينته دمشق في قصائد عدة، من بينها قصيدته “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي”، والتي عبر فيها عن أشواقه المزمنة لدمشق ولمفردات الحياة فيها، واسترسل في التعبير عن لواعج الفراق بينه وبينها.
ويستمر نزار قباني في الإفصاح عن غرامه لدمشق حين أفرد لها قصيدة قائمة بذاتها، هي «القصيدة الدمشقية» التي رسم في مطلعها صورة للدمشقي المميز بعلاقته بالمكان، حيث تحتوي دقائق جسده على كل تفاصيل المكان وجمالياته من عناقيد العنب، وفاكهة التفاح، وتفاصيل الماضي:
“أنا الدمشقي لو شرّحتم جسدي
لسال منه عناقيد وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعتم في دمي أصوات من راحوا”
وتتغلغل علاقة نزار بدمشق بعيداً حتى تصل إلى عمق اللغة الخاصة التي يكتب بها، فهو يقول مفسراً ذلك التشابك بأن اللغة الشامية تداخلت في كلماته الشعرية، وأنه على رغم كل الأسفار التي بدأها كدبلوماسي لفترة امتدت لعشرين عاماً، وتعلم فيها العديد من اللغات الأجنبية، إلا أنه بقي في لا وعيه محتفظاً بأبجدية دمشق في صوته، في أصابعه، في ثيابه، وفي شعريته الطافحة والتي نثرت ورداً دمشقياً على أديم العالم العربي لسنوات طويلة.
شارع نزار قباني:
تلك الجنة الدمشقية التي وصفها نزار، بادلته حباً بحب، فتم تسمية شارع في دمشق باسمه، فعبر عن ذلك بقوله: «نزار قباني هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ، هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنّة، تذكروا أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع، لعبت فوق حجارته وقطفت أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره».
“نزار قباني.. قيثارة دمشق”:
لم تكتف دمشق بالاحتفاء بشاعرها بتسمية أحد أجمل شوارعها باسمه، فقد أعلنت الدكتورة مانيا سويد مديرة دار سويد للطباعة والنشر عن إطلاق كتاب بمناسبة الذكرى الـ 25 لوفاة الشاعر نزار قباني، كما تم في الحادي والعشرين من آذار 2023 بمناسبة الذكرى المئوية لولادة شاعر العروبة والوطن، إصدار كتاب بعنوان “نزار قباني، قيثارة دمشق”، وهو بحث كتابي مطوّل ألفه الدكتور محمد رضوان الداية أستاذ الأدب العربي والأندلسي الشهير، استعرض فيه مكونات حياة نزار قباني وتاريخه الشخصي والإبداعي.
كما استعرض فيه المواضيع المهمة التي ساهمت في تكوينه الثقافي والشعري وتجديده الشعري الذي قدمه، وخاصة اللغة الثالثة التي طور فيها اللغة الشعرية العربية وأوجد بحثاً خاصاً عن التجديدات العروضية التي أحدثها في بحور الشعر العربي، واختراعه بحراً جديداً، وهو بحث يقدم لأول مرة في تاريخ النقد العربي.
وقدم الداية شواهد عن علاقة نزار بالنثر وقصائد الحداثة وعلاقته بالإعلام وأهل الثقافة والفن.
ويقدم الكتاب وقفة مع قصيدة نزار الشهيرة (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي) التي ألقاها بعد حرب تشرين التحريرية مع شرح كامل لها، وخص الدكتور الداية قراء الكتاب بمعارضة شعرية في الكتاب لهذه القصيدة، بقصيدة ألّفها حملت اسم (نزاريّة).
واحتوى الكتاب على بحث استهلالي بقلم الدكتورة سويد تناولت فيه رسالة الوفاء المُراد إطلاقها مع هذا الكتاب، لتؤكد أن الكلمة الحرة تُخلّد مُبدعها، وأكدت أن الدراسات والبحوث مهما كثرت وتعمقت وتوسعت وأضاءت على جانب من عظمة هؤلاء الأعلام، فستبقى قصصهم مستترة في خيوط أكفانهم وحكايات مخبأة في أدراج القلب، ما يدع الباب مُشرّعاً أمام الباحثين والدارسين لمزيد من التقصي.
وينتهي الكتاب ببحث ثالث تحت عنوان (من نزار وعنه) بقلم الكاتب نضال قوشحة، تناول بعضا من الشهادات التي قدمها كبار أهل الأدب والفن عنه عبر تاريخه، ومما قالوه فيه في حياته وبعد رحيله.
الضفيرة ذاكرة مجدولة بأشعار نزار قباني:
رواية الضفيرة للكاتبة والأديبة غيداء درويش هي مثال من مجموعة كبيرة من الأمثلة لأثر كبير تركه نزار على غيره من الشعراء والكتاب والعاشقين.
فقد نشرت الكاتبة أحداث حياتها على وقع أشعار نزار في تجربة أدبية مميزة، حيث خصصت إذاعة شام إف إم ثلاثين حلقة في أمسيات رمضانية في عام 2007 لرواية الضفيرة التي تضافرت فيها كلمات الشاعر والكاتبة في حوار مجدول بأجمل الشعر والموسيقا.
نزار وهيام وخلاصة الكلام:
“المكان أحد أحياء دمشق القديمة، تحديداً “مئذنة الشحم”، والزمان: 20 آذار 2018، والوقت منتصف النهار تقريباً، وكنا على عتبة ربيع خجول، أما المناسبة فكانت تلبية دعوة من وزارة الثقافة للمشاركة في التغطية الإعلامية لرفع الستار عن لوحة دلالية تشير إلى البيت الذي وُلِد ونشأ فيه شاعرنا الكبير نزار قباني”.
عن هذا اليوم تحدثت الإعلامية هيام حموي لـ سانا وأسهبت في الوصف: “رُفع الستار، تأملنا اللوحة الحجرية، وقرأنا الكلمات المحفورة على سطحها: هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي… هنا سكن نزار قباني.
ثم دعينا للدخول إلى الدار، ودخلنا في (قارورة العطر)، كما كان يسميها في كتاباته عند الحديث عن طفولته وصباه…” وتابعت حموي: “أرض الديار، تماما كما تخيلتها عند قراءتي لنصوصه، البحرة والدالية والياسمينة وشجرة النارنج، والشمس المتسللة عبر الأغصان، كل شيء كان مطابقاً لوصفه”.
وأضافت : “عادت بي الذاكرة رغما عني إلى ذلك اليوم الربيعي الآخر من عام 1991، يوم منحني القدر فرصة لقائه في مقر إقامته بعاصمة الضباب لندن، قطعة من الشام كانت الإطار لجلسة حوار تم تسجيله بمناسبة مرور خمسين عاماً على اقترانه بقصيدة الشعر، احتفلنا بالمناسبة وأضاء بنبرات صوته “شمعة قصيدة” احتفظت بها آلة التسجيل ككنز لا يُقدّر بثمن، مثلما تمسكت بها ذاكرتي التي ترفض أن تنسى أي تفصيل من تفاصيل ذلك اليوم”.
وتابعت حموي بحب وشوق: ،يا لمتعة الحديث القيّم، والمفردات المنتقاة بعناية ودقة، ونبرات الصوت الرخيم، أربعة من أشرطة الكاسيت امتلأت بإجاباته وقصائده، هذا يعني أن كنزي الأدبي الصوتي بات (يزن) إذاعياً أربع ساعات، لم نشعر بمرورها لزخم ما ازدحمت به من أفكار وآراء وحكايات”.
وختمت بالقول: “شعور غامر بسعادة حقيقية تملكني في ذلك اليوم، ليس فقط بسبب حصولي على كنز صوته وكلماته، وإنما بسبب تطابق الصورة التي في مخيلتي عن الشاعر الكبير مع حقيقة شخصيته، إذ كنت أخشى أن أفجع بوجود فارق، ولو بسيط، بين الحالتين، فلكم سبق أن عشت خيبات كبرى بسبب ازدواجية الشخصية لدى بعض كبار المبدعين”.
وما بين عمر وعمر يبقى نزار قباني رغم الرحيل والغياب المستكشف الأكبر للحب، والعاشق للوطن، والمغامر في بحور الكلمات وحضرة الإبداع.